ومع أننا ظللنا نتعامل بطريقة عادية... يخطر لي الآن أن مساحة وجودنا المتقلصة تلك – الأماكن التي ضاقت علينا في التسعينيات – هي نفسها أماكن التظاهر التي تحاصرنا فيها قوات الأمن إذا خرجنا، ولا يكفي ألف وخمسمئة شهيد أو أكثر وعام كامل لجعلها تتسع...
في المساء أفكر في مون من حيث تصلني أخبار الأحداث وأضحك من أن الاحتجاجات مازالت سلمية. أهنّئ نفسي على فتح حاوية "التماسيح" ولا أشعر بالذنب. لا يستهويني الجري في الشوارع واستنشاق الغاز؛ وبالمنطق الانهزامي ذاته الذي أعانني على الحياة في مصر منذ ٢٠٠١ – "ما بعد اليأس"، كما يسميه باولو – لا أظن وجودي ضمن مئة أو ألف أو مليون أعزل معرّض لضرب النار والدهس والاختطاف سيقدّم أو يؤخّر. أحس أنني جريتُ بما يكفي في الشهور السابقة، وأن ما يمكن أن يحقّقه مقتلي لا يساوي فجيعة أختي، حتى لو لم يدم حزنها علي سوى بضعة أيام؛ أحس بضوء قارص يخلّف ألماً حاداً في بطني وأتساءل بجدية جديدة علي في هذا السياق: كل هذا من أجل أن يتنازل المجلس العسكري عن الحكم؛ طيب، ماذا بعد أن يتنازل المجلس العسكري عن الحكم؟ ضوء قارص وقناعة متزايدة بأن سقوط المجلس لا يعني أن شيئاً إيجابياً سيحدث يساوي فجيعة أخت على أخيها، حتى لو لم يدم حزنها سوى بضعة أيام.
أفكر في مون وأتذكر أنها لم تبادل نايف عنفه في ليلتهما الأولى معاً. بفرحة قالت لي إنها كانت تُفقدها القدرة على التنفس، أمضت عشرة أيام – وهما لا يلتقيان – وكأنها تحتفل بيديه وعضوه ولسانه حيث تلقتها فجواتها. وبدا أن فجوات جديدة ظهرتْ فيها على الكنبة لتتلقّى لسانه وعضوه ويديه. لم تفطن إلى جدوى إيلامه قبل أسبوع آخر لم يلتقيا خلاله؛ وحين ناولته اللكمة الأولى في وجهه أثناء لقائهما الرابع وهي ترتعش – عيناها على وسطه في أثنائها – أضحكها أن تراه ينتصب على الفور، الضحكة الصفراء القبيحة ذاتها. كان عليه أن يبتدع عذاباً جديداً على سبيل الرد، أمكنها أن تصرخ أخيراً وهو يعرّضها إليه. وأفرحه صراخها.
دام لقاؤهما الثالث، كما ستدوم كل لقاءاتهما، يومين متصلين؛ كان نايف يتعطل عن عمله ليظل معها لو أتت في غير يومي العُطلة الأسبوعية، ثم يصبر على غياب عشرة أيام أو أكثر لا يسألها أين تمضيها وقد افترض أنها مع زوجها... إلى أن بدأت تحكي عن أعمال سكرتاريّة مؤقتة كالعمل الذي تعرّف إليها من خلاله (وغادرتْه خلال أسبوعين لتبدأ عملاً آخر مشابهاً)، موحية بأنها تبيت بحكم هذه الأعمال لوحدها. وللمرة الأولى في حياته، رغم استمرار حضور الأسد، بدأ نايف يتحرق إلى معرفة كل شيء. بدأ يرى مون جزءً من حركة أو مدرسة أو لوثة هي التحدي الأمثل للشاعر السري. وقبل أن يدرك ما يحدث كان هوس تلك اللوثة أو المدرسة أو الحركة قد تمكن منه. بدأ يتحرق إلى السيطرة على وقتها وحركتها؛ بدأ، مع ضيقها بأسئلته، ينتبه إلى كذباتها... كان يعاقبها ويتضرع إليها تباعاً حتى تُعلِمه بمكان وجودها أو تتابع الاتصال أو تمضي معه المزيد من الوقت، لكنها لم تستجب أبداً. "مشكلتك أنك تنسى يا بيبي،" كانت تقول له: "أنا بنت دين كلب متزوجة!"
[الصورة من يوسف رخا]
في ليلتهما الأولى معاً، أقول – عندما عاد نايف ومعه الكوفية وتفاحة الشمع التي سارع بإشعالها على مقبض الكنبة، متمتماً "عارف أنك تحبين الشمع الساخن، لا يمكن أساساً أحرمك من شيء تحبينه" – نظرت إليه غير مصدّقةً فعلاً ثم قاومته – مصدومة – بلا فائدة. بقيت على صمتها بينما هو، بإصرار ومهارة غير متوقعة ولا حتى منه، يربط يديها وراء ظهرها بالكوفية إلى أن يشل ذراعيها تماماً، ثم يشدها من حلمتها إلى حيث الشمعة تتأرجح قليلاً وتبعث رائحة تفاح خافتة – كان يقبّل رقبتها بحنان صادق وهو يفعل، متمتماً "هانت يا بيبي، لحظة وتُحسّين بالشمع" – إلى أن طرحها هناك على بطنها وجلس القرفصاء فوق ظهرها وقدماه على جنبيها بالشمعة في يد والقداحة في الأخرى؛ وحتى حين سقطت أولى القطرات لزجة وثقيلة وموجعة على جلدها (نايف يتابع المشهد مثل معلق رياضي، مهللاً مع كل لسعة حيث الشمع الأحمر يتجمد وينغرس في اللحم على الفور، فيبدو كأنه دم تخثر منذ حين)، كانت تتلوى وتهمهم، تهمهم ولا تصرخ والقطرات تحرق وركها.
أذكر أن رائحة الدخان والفلفل خفتت شيئاً فشيئاً خلال ذلك وقد اختلطت برائحة الشمع، ومع ذلك عادت إلى أنف نايف – بكثافتها الأولى – رائحة الريحان الأخضر.
ليلتها حين قذف نايف أخيراً في حلق مون قبل أن يحرر ذراعيها من كوفيته ويدعها تضمد جسدها وتتحمم – إلى آخر لحظة كانت يده في فرجها تبلّغها ذروتها كما فعل عضوه ثم لسانه – كان مندهشاً من قسوته وحنكة يديه؛ أحس – كما سيقول لي وهو يشكو منها في سياق آخر – أن القوة التي تحركه وهو معها موجودة خارجه، أن مصدرها أكبر من شخصه أو أي شخص سواه: طاقة الدفع ذاتها التي دفعته إلى ترجمة ألن جينزبرج. وخطر له للمرة الأولى أن مون والقصيدة حدان على طريق قوامها الأسد، وأنه سائر على هذه الطريق إلى ذروة ما، بداية أو نهاية.
قلتُ إنني نمت مع مون وأنا لا أصدق أنه حدث حقاً قبل نهاية الحكاية، لا أصدق أنني ملّست على شعرها قصيراً ومعقوصاً بلون الشيكولاتة وجسدها النحيف المكهرب ينتفض بين ذراعي. لكن متعتنا لم يشبها الوجع. ربما أحببتها قليلاً، ربما لم يحركني حيالها إلا ما هو موجود داخلي. بعدما تحولنا من "أولاد ناس" ذلوا إلى تماسيح ظللنا نتعامل على أن ما يُكتَب لا يعنينا، هذا المهم. وبتحولنا إلى نُصُب رخامي بلا تمثال سنة ١٩٩٧، تسلّمنا حقيبة المستقبل.
[مقتطف من رواية "التماسيح" ليوسف رخا، الصادرة حديثاً عن دار الساقي، بيروت]